فصل: هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


اليوم الآخر

هل أشراط الساعة الكبرى تأتي بالترتيب‏؟‏

‏(‏137‏)‏سئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل أشراط الساعة الكبرى تأتي بالترتيب‏؟‏ وهل الحيوانات تشعر بعلامات القيامة دون الإنس والجن‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ أشراط الساعة الكبرى بعضها مرتب ومعلوم ، وبعضها غير مرتب ولا يعلم ترتيبه ، فمما جاء مرتباً نزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج، والدجال فإن الدجال يبعث ثم ينزل عيسى ابن مريم فيقتله ثم يخرج مأجوج ومأجوج‏.‏

وقد رتب السفاريني-رحمه الله- في عقيدته هذه الأشراط لكن بعض هذا الترتيب تطمئن إليه النفس وبعضها ليس كذلك‏.‏

والترتيب لا يهمنا ، وإنما يهمنا أن للساعة علامات عظيمة إذا وقعت فإن الساعة تكون قد قربت ، وقد جعل الله للساعة أشراطاً ؛ لأنها حدث هام يحتاج الناس إلى تنبيههم لقرب حدوثه‏.‏

ولا ندري هل تشعر البهائم بذلك ، ولكن البهائم تبعث يوم القيامة وتحشر ويقتص من بعضها لبعض فيقتص للشاة الجلحاء من القرناء‏.‏

المهدي

‏(‏ 138‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ عن أحاديث خروج المهدي هل هي صحيحة أو لا‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ أحاديث المهدي تنقسم إلى أربعة أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ أحاديث مكذوبة‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أحاديث ضعيفة‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أحاديث حسنة لكنها بمجوعها تصل إلى درجة الصحة ، على أنها صحيح لغيره‏.‏

وقال بعض العلماء ‏:‏إن فيها ما هو صحيح لذاته وهذا هو القسم الرابع‏.‏

ولكنه ليس المهدي ‏:‏ المزعوم الذي يقال ‏:‏ إنه في سرداب في العراق، فإن هذا لا أصل له وهو خرافة ولا حقيقة له ، ولكن المهدي الذي جاءت الأحاديث بإثباته رجل كغيره من بني آدم يخلق ويولد في وقته ويخرج إلى الناس في وقته ، فهذه هي قصة المهدي، وإنكاره مطلقاً خطأ، وإثباته مطلقاً خطأ، كيف ذلك‏؟‏

إثباته على وجه يشمل المهدي المنتظر الذي يقال ‏:‏ إنه في السرداب هذا خطأ ؛ لأن اعتقاد هذا المهدي المختفي خبل في العقل ، وضلال في الشرع وليس له أصل ، وإثبات المهدي الذي أخبر به النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وتكاثرت فيه الأحاديث والذي سيولد في وقته ويخرج في وقته هذا حق‏.‏

يأجوج ومأجوج

‏(‏ 139‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ من هم يأجوج ومأجوج‏؟‏

فأجاب- حفظه الله تعالى - بقوله‏:‏ يأجوج ومأجوج أمتان من بني آدم موجودتان ، قال الله تعالى في قصة ذي القرنين‏:‏ ‏(‏حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً ‏.‏ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً ‏.‏قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً‏.‏ آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً ‏.‏ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً ‏.‏قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً‏)‏

ويقول النبي ، صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يقول الله يوم القيامة ‏:‏ يا آدم قم فابعث بعث النار من ذريتك‏)‏ إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أبشروا فإن منكم واحداً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً‏)‏ ‏.‏ وخروجهم الذي هو من أشراط الساعة وجدت بوادره في عهد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ففي حديث أم حبيبة، رضي الله عنها، قالت ‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فزعاً محمراً وجهه يقول ‏:‏ ‏(‏ لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها ‏)‏‏.‏

الدجال

من هو الدجال ‏؟‏ ولماذا حذر الأنبياء أقوامهم منه مع أنه لا يخرج إلا في آخر الزمان‏؟‏

‏(‏140 ‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ عن الدجال ‏؟‏ ولماذا حذر الأنبياء أقوامهم منه مع أنه لا يخرج إلا في آخر الزمان‏؟‏

فأجاب قائلاً‏:‏ أعظم فتنة على وجه الأرض منذ خلق آدم إلى قيام الساعة هي فتنة الدجال كما قال ذلك النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ما من نبي من نوح إلى محمد ، صلوات الله عليهم وسلامه ، إلا أنذر قومه به تنويهاً بشأنه ، وتعظيماً له ، وتحذيراً منه، وإلا فإن الله يعلم أنه لن يخرج إلا في آخر الزمان ، ولكن أمر الرسل أن ينذروا قومهم إياه من أجل أن تتبين عظمته وفداحته ، وقد صح ذلك عن النبي ، عليه الصلاة والسلام، وقال‏:‏ ‏(‏إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم - صلوات الله وسلامه عليه يعني أكفيكم إياه- وإلا فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم‏)‏ نِعْمَ الخليفة ربنا - جل وعلا- ‏.‏

فهذا الدجال شأنه عظيم بل هو أعظم فتنة كما جاء في الحديث منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، فكان حريّاً بأن يخص من بين فتن المحيا بالتعوذ من فتنته في الصلاة ‏(‏أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏ ‏.‏

وأما الدجال فهو مأخوذ من الدجل وهوالتمويه،لأن هذا مموه بل أعظم مموه وأشد الناس دجلاً‏.‏

وقت خروج المسيح الدجال

‏(‏141‏)‏ وسئل فضيلته‏:‏ عن وقت خروج المسيح الدجال‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ خروج المسيح الدجال من علامات الساعة ولكنه غير محدد ، لأنه لا يعلم متى تكون الساعة إلا الله فكذلك أشراطها ما نعلم منها إلا ما ظهر ، فوقت خروجه غير معلوم لنا لكننا نعلم أنه من أشراط الساعة‏.‏

مكان خروج الدجال

‏(‏ 142‏)‏ وسئل عن مكان خروج الدجال‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ يخرج من المشرق من جهة الفتن والشر كما قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏الفتنة هاهنا‏"‏ وأشار إلى المشرق ، فالمشرق منبع الشر والفتن يخرج من المشرق من خراسان مارّاً بأصفهان داخلاً الجزيرة من بين الشام والعراق ليس له هم إلا المدينة ، لأن فيها البشير النذير ، عليه الصلاة والسلام ، فيحب أن يقضي على أهل المدينة ، ولكنها محرمة عليه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏على كل باب منها ملائكة يحفظونها‏)‏ هذا الرجل يخرج خلة بين الشام والعراق، ويتبعه من يهود أصفهان سبعون ألفاً ؛ لأنهم جنوده، فاليهود من أخبث عباد الله وهو أضل عباد الله فيتبعونه ويؤوونه وينصرونه، ويكونون مسالح له- أي جنوداً مجندين- هم وغيرهم ممن يتبعهم ، قال النبي ، عليه الصلاة والسلام ‏:‏ ‏(‏يا عباد الله فاثبتوا يا عباد الله فاثبتوا‏)‏ يثبتنا عليه الصلاة والسلام ، لأن الأمر خطير وقال عليه الصلاة والسلام ‏:‏ ‏(‏من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات‏)‏ ‏.‏ يأتيه الإنسان ويقول ‏:‏ لن يضلني ولن أتأثر به، ولكن لا يزال يلقي عليه من الشبهات حتى يتبعه والعياذ بالله‏.‏

دعوة الدجال وما يدعو إليه

‏(‏ 143‏)‏ وسئل عن‏:‏ دعوة الدجال وما يدعو إليه‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ ذكر أنه أول ما يخرج يدعو إلى الإسلام ويقول ‏:‏ إنه مسلم ، وينافح عن الإسلام ، ثم بعد ذلك يدعي النبوة وأنه نبي ، ثم بعد ذلك يدعي أنه إله فهذه دعوته نهايتها بداية فرعون وهي ادعاء الربوبية‏.‏

فتنة الدجال

‏(‏ 144‏)‏ وسئل عن ‏:‏ فتنة الدجال‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ من حكمة الله- عز وجل أنه - سبحانه وتعالى يعطي الدجال آيات فيها فتن عظيمة فإنه يأتي إلى القوم يدعوهم فيتبعونه فيصبحون وقد نبتت أراضيهم ، وشبعت مواشيهم فتعود إليهم أطول ما كانت ذراً وأسبغ ضروعاً ، وأمد خواصر يعني أنهم يعيشون برغد لأنهم اتبعوه‏.‏

ويأتي القوم فيدعوهم فلا يتبعونه فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، وهذه فتنة عظيمة لا سيما في الأعراب ، ويمر بالخربة فيقول ‏:‏ أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل من ذهب وفضة وغيرها بدون آلات وبدون أي شيء ، فتنة من الله - عز وجل- فهذه حاله ومعاملته مع أهل الدنيا لمن يريد التمتع بالدنيا أو يبأس فيها‏.‏

ومن فتنته أن الله - تعالى - جعل معه جنة وناراً بحسب رؤيا العين لكن جنته نار ، وناره جنة ، فمن أطاعه أدخل هذه الجنة فيما يرى الناس ولكنها نار محرقة والعياذ بالله ، ومن عصاه أدخله النار فيما يراه الناس ولكنها جنة وماء عذب طيب‏.‏

إذاً يحتاج الأمر إلى تثبيت من الله - عز وجل - إن لم يثبت الله المرء هلك وضل فيحتاج إلى أن يثبت الله المرء على دينه ثباتاً قوياً‏.‏

ومن فتنته أنه يخرج إليه رجل من الناس ممتلئ شباباً فيقول له‏:‏ أنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدعوه فيأبى أن يتبعه فيضربه ويشجه في المرة الأولى ثم يقتله ويقطعه قطعتين ويمشي بينهما تحقيقاً للمباينة بينهما، ثم يدعوه فيقوم يتهلل وجهه ، ويقول ‏:‏ أنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتي ليقتله فلا يسلط عليه يعجز عن قتله ولن يسلط على أحد بعده، فهذا من أعظم الناس شهادة عند الله لأنه في هذا المقام العظيم الرهيب الذي لا نتصوره نحن في هذا المكان لا يتصور رهبته إلا من باشره ومع ذلك يصرح على الملأ إعذاراً وإنذاراً بأنك أنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم‏.‏ ، هذه حاله وما يدعو إليه‏.‏

مقدار لبث الدجال في الأرض

‏(‏ 145‏)‏ وسئل فضيلته‏:‏ عن مقدار لبث الدجال في الأرض‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ مقدار لبثه في الأرض‏:‏ أربعون يوماً فقط، لكن يوم كسنة ، ويوم كشهر، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامنا ، هكذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الصحابة - رضي الله عنهم‏:‏ يا رسول الله هذا اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم واحد ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏لا ،اقدروا له قدره‏)‏ انظروا إلى هذا المثال لنأخذ منه عبرة كيف كان تصديق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لرسول الله ما ذهبوا يحرفون ، أو يؤولون، أو يقولون ‏:‏إن اليوم لا يمكن أن يطول لأن الشمس تجري في فلكها ولا تتغير ولكنه يطول لكثرة المشاق فيه وعظمها فهو يطول لأنه متعب بكسر العين ما قالوا هكذا كما يقول بعض المتحذلقين ، ولكن صدقوا بأن هذا اليوم سيكون اثني عشر شهراً حقيقة بدون تحريف وبدون تأويل، وهكذا حقيقة المؤمن ينقاد لما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب وإن حار فيها عقله ، لكن يجب أن تعلم أن خبر الله ورسوله لا يكون في شيء محال عقلاً لكن يكون في شيء تحار فيه العقول لأنها لا تدركه ، فالرسول ، صلى الله عليه وسلم أخبر أن أول يوم من أيام الدجال كسنة ، لو أن هذا الحديث مر على المتأخرين الذين يدعون أنهم هم العقلاء لقالوا ‏:‏ إن طوله مجاز عما فيه من التعب والمشقة لأن أيام السرور قصيرة ، وأيام الشرور طويلة ، ولكن الصحابة -رضي الله عنهم- من صفائهم وقبولهم سلموا في الحال وقالوا بلسان الحال ‏:‏ إن الذي خلق الشمس وجعلها تجري في أربع وعشرين ساعة في اليوم والليلة قادر على أن يجعلها تجري في اثني عشر شهراً؛ لأن الخالق واحد - عز وجل -فهو قادر ، ولذلك سلموا ‏.‏ وقالوا ‏:‏ كيف نصلي ‏؟‏ ما سألوا عن الأمر الكوني لأنهم يعلمون أن قدرة الله فوق مستواهم ، سألوا عن الأمر الشرعي الذين هم مكلفون به وهو الصلاة، وهذا والله حقيقة الانقياد والقبول قالوا ‏:‏ يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا اقدروا له قدره‏)‏ وسبحان الله العظيم إذا تأملت تبين لك أن هذا الدين تام كامل لا يمكن أن تكون مسألة يحتاج الناس إليها إلى يوم القيامة إلا وجد لها أصل، كيف أنطق الله الصحابة أن يسألوا هذا السؤال‏؟‏ أنطقهم الله حتى يكون الدين كاملاً لا يحتاج إلى تكميل ، وقد احتاج الناس إلى هذا الآن في المناطق القطبية يبقى الليل فيها ستة أشهر والنهار ستة أشهر فنحتاج إلى هذا الحديث ، انظر كيف أفتى الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذه الفتوى قبل أن تقع هذه المشكلة لأن الله -تعالى - قال في كتابه ‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ والله لو نتأمل الكلمة ‏{‏أكملت لكم دينكم‏}‏ لعلمنا أنه لا يوجد شيء ناقص في الدين أبداً ، فهو كامل من كل وجه ، لكن النقص فينا ؛ إما قصور في عقولنا ، أو في أفهامنا ، أو في إرادات ليست منضبطة يكون الإنسان يريد أن ينصر قوله فيعمى عن الحق - نسأل الله العافية - فلو أننا نظرنا في علم ، وفهم ، وحسن نية لوجدنا أن الدين ولله الحمد لا يحتاج إلى مكمل ، وأنه لا يمكن أن تقع مسألة صغيرة ولا كبيرة ، إلا وجد حلها في الكتاب والسنة، لكن لما كثر الهوى وغلب على الناس صار بعض الناس يعمى عليهم الحق ويخفى عليهم وتجدهم إذا نزلت فيهم الحادثة التي لم تكن معروفة من قبل بعينها وإن كان جنسها معروفاً تجدهم يختلفون فيها أكثر من أصابعهم ، إذا كانت تحتمل قولين وجدت فيها عشرة ، كل هذا لأن الهوى غلب على الناس الآن ، وإلا فلو كان القصد سليماً والفهم صافياً والعلم واسعاً لتبين الحق‏.‏

على كل حال ، أقول ‏:‏ إن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أخبر أن الدجال يبقى أربعين يوماً وبعد الأربعين يوماً ينزل المسيح عيسى بن مريم الذي رفعه الله إليه وقد جاء في الأحاديث الصحيحة ‏(‏أنه ينزل عند المنارة البيضاء ، شرقي دمشق ، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريحه إلا مات‏)‏‏.‏ وهذه من آيات الله فيلحق الدجال عند باب لد في فلسطين فيقتله هناك ،وحينئذ يقضي عليه نهائياً ، ولا يقبل عيسى ، عليه الصلاة والسلام ، إلا الإسلام لا يقبل الجزية ، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير فلا يعبد إلا الله ، وعلى هذا فالجزية التي فرضها الإسلام جعل الإسلام لها أمداً تنتهي إليه عند نزول عيسى ، ولا يقال ‏:‏ إن هذا تشريع من عيسى عليه الصلاة والسلام ، لأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أخبر بذلك مقراً له ، فوضع الجزية عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ‏:‏ قوله وفعله وإقراره ، وكونه يتحدث عن عيسى ابن مريم مقراً له فهذا من سنته ، وإلا فإن عيسى لا يأتي بشرع جديد ولا أحد يأتي بشرع جديد ، ليس إلا شرع محمد ، عليه الصلاة والسلام ، إلى يوم القيامة ، هذا ما يتعلق بالدجال نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من فتنته‏.‏

هل الدجال من بني آدم ‏؟‏

‏(‏ 146‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ ‏:‏ هل الدجال من بني آدم ‏؟‏

فأجاب قائلاً‏:‏ الدجال من بني آدم ‏.‏ وبعض العلماء يقول ‏:‏ إنه شيطان‏.‏ وبعضهم يقول ‏:‏ إن أباه إنسيّ وأمه جنية ، وهذه الأقوال ليست صحيحة ، فالذي يظهر أن الدجال من بني آدم ، وأنه يحتاج إلى الأكل والشرب وغير ذلك ، ولهذا يقتله عيسى قتلاً عادياً كما يقتل البشر‏.‏

هل الدجال موجود الآن‏؟‏

‏(‏ 147‏)‏ وسئل فضيلته‏:‏ هل الدجال موجود الآن‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ الدجال غير موجود لأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم خطب الناس في آخر حياته وقال ‏:‏ ‏(‏إنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد‏)‏ ‏.‏ وهذا خبر ، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يدخله الكذب وهو متلقى من الوحي لأن النبي ، صلى الله عليه وسلم لا يعلم مثل هذا الغيب فهو غير موجود ولكن الله يبعثه متى شاء‏.‏

معارضة حديث تميم الداري للرأي القائل بعدم وجود الدجال الآن

‏(‏ 148‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ ذكرتم في الفتوى السابقة رقم ‏"‏147‏"‏ أن الدجال غير موجود الآن وهذا الكلام ظاهره يتعارض مع حديث فاطمة بنت قيس في الصحيح عن قصة تميم الداري فنرجو من فضيلتكم التكرم بتوضيح ذلك‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ ذكرنا هذا مستدلين بما ثبت في الصحيحين عن النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، قال ‏:‏ ‏(‏إنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد‏)‏ ‏.‏ فإذا طبقنا هذا الحديث على حديث تميم الداري صار معارضاً له ، لأن ظاهر حديث تميم الداري أن هذا الدجال يبقى حتى يخرج فيكون معارضاً لهذا الحديث الثابت في الصحيحين ، وأيضاً فإن سياق حديث تميم الداري في ذكر الجساسة في نفسي منه شيء هل هو من تعبير الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أو لا ‏.‏

صحة قول بعض أهل العلم‏:‏ إن الرسل الذين أنذروا أقوامهم الدجال لم ينذروهم بعينه وإنما أنذروهم بجنس فتنته‏؟‏

‏(‏ 149‏)‏ وسئل فضيلته ‏:‏ عن قول بعض أهل العلم ‏:‏ إن الرسل الذين أنذروا أقوامهم الدجال لم ينذروهم بعينه وإنما أنذروهم بجنس فتنته‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ هذا القول الضعيف ، بل هو نوع من التحريف لأن الرسول ، صلى الله عليه وسلم، أخبر بأنه ما من نبي إلا أنذر به قومه بعينه كما في صحيح مسلم أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ ‏(‏ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب‏)‏ وسبق لنا بيان الحكمة من إنذار الرسل به ، ولكن يجب علينا أن نعلم أن جنس هذه الفتنة موجود حتى في غير هذا الرجل ، يوجد من بني آدم الآن من يضل الناس بحاله ومقاله وبكل ما يستطيع، وتجد أن الله - سبحانه وتعالى - بحكمته أعطاه بياناً وفصاحة ‏{‏ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة‏}‏ فعلى المرء إذا سمع مثل هذه الفتن التي تكون لأهل البدع من أناس يبتدعون في العقائد، وأناس يبتدعون في السلوك وغير ذلك ، يجب عليه أن يعرض هذه البدع على الكتاب والسنة وأن يَحْذَرَ ويُحَذِّرَ منها وأن لا يغتر بما تكسى به من زخارف القول ، فإن هذه الزخارف كما قيل فيها‏:‏

حجج تهافت كالزجاج تخالها ** حقًّا وكل كاسر مكسور

فالدجال المعين لا شك أن فتنته أعظم شيء يكون ، لكن هناك دجاجلة يدجلون على الناس ويموهون عليهم ، فيجب الحذر منهم ، ومعرفة إراداتهم ونياتهم ، ولهذا قال الله تعالى في المنافقين‏:‏ ‏{‏هم العدو فاحذرهم‏}‏ مع أنه قال‏:‏ ‏{‏وإن يقولوا تسمع لقولهم‏}‏ يعني بيانه، وفصاحته ، وعظمه ، يجرك جرّاً إلى أن تسمع ، لكن كأنهم خشب مسندة حتى الخشب ما هي قائمة بنفسها ، مسندة تقوم على الجدار فهي لا خير فيها‏.‏

فهؤلاء الذين يزينون للناس بأساليب القول سواء في العقيدة ، أو في السلوك ، أو في المنهج يجب الحذر منهم ، وأن تعرض أقوالهم ، وأفعالهم على كتاب الله وسنة رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، فما خالفهما فهو باطل مهما كان ، ولا تقولن ‏:‏ إن هؤلاء القوم أعطوا فصاحة وبياناً لينصروا الحق ، فإن الله تعالى قد يبتلي فيعطي الإنسان فصاحة وبياناً وإن كان على باطل كما ابتلى الله الناس بالدجال وهو على باطل بلا شك‏.‏

حكم من أنكر حياة الآخرة وزعم أن ذلك من خرافات القرون الوسطى، وكيف يمكن إقناع هؤلاء المنكرين‏؟‏

‏(‏ 150‏)‏ سئل فضيلة الشيخ ‏:‏ عن حكم من أنكر حياة الآخرة وزعم أن ذلك من خرافات القرون الوسطى‏؟‏ وكيف يمكن إقناع هؤلاء المنكرين‏؟‏

فأجاب بقوله ‏:‏ من أنكر حياة الآخرة ، وزعم أن ذلك من خرافات القرون الوسطى فهو كافر، لقول الله -تعالى -‏:‏ ‏{‏وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ‏.‏ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون‏}‏‏.‏ وقال - تعالى - ‏:‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين ‏.‏ الذين يكذبون بيوم الدين ‏.‏ وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ‏.‏ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ‏.‏ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ‏.‏ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏.‏ ثم إنهم لصالو الجحيم ‏.‏ ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ وقال-تعالى-‏:‏ ‏{‏بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً‏}‏ ‏.‏ وقال - تعالى- ‏:‏ ‏{‏والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم‏}‏ ‏.‏

وأما إقناع هؤلاء المنكرين فبما يأتي‏:‏

أولاً‏:‏ أن أمر البعث تواتر به النقل عن الأنبياء والمرسلين في الكتب الإلهية، والشرائع السماوية، وتلقته أممهم بالقبول ، فكيف تنكرونه وأنتم تصدقون بما ينقل إليكم عن فيلسوف أو صاحب مبدأ أو فكرة ، وإن لم يبلغ ما بلغه الخبر عن البعث لا في وسيلة النقل ، ولا في شهادة الواقع‏؟‏‏!‏‏!‏

ثانياً‏:‏ أن أمر البعث قد شهد العقل بإمكانه ، وذلك من وجوه‏:‏

1- 1- كل أحد لا ينكر أن يكون مخلوقاً بعد العدم ، وأنه حادث بعد أن لم يكن ، فالذي خلقه وأحدثه بعد أن لم يكن قادر على إعادته بالأولى ، كما قال الله - تعالى - ‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ وقال تعالى ‏:‏‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين‏}‏‏.‏

2- 2- كل أحد لا ينكر عظمة خلق السموات والأرض لكبرهما وبديع صنعتهما ، فالذي خلقهم قادر على خلق الناس وإعادتهم بالأولى ؛ قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس‏}‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير‏}‏‏.‏ وقال تعالى-‏:‏ ‏{‏أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ‏.‏ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول ‏:‏ له كن فيكون‏}‏

3- 3- كل ذي بصر يشاهد الأرض مجدبة ميتة النبات ، فإذا نزل المطر عليها أخصبت وحيي نباتها بعد الموت ، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وبعثهم ،قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير‏}‏ ‏.‏

ثالثاً ‏:‏ أن أمر البعث قد شهد الحس والواقع بإمكانه فيما أخبرنا الله تعالى به من وقائع إحياء الموتى ، وقد ذكر الله تعالى من ذلك في سورة البقرة خمس حوادث منها ، قوله ‏{‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير‏}‏ ‏.‏

رابعاً‏:‏ أن الحكمة تقتضي البعث بعد الموت لتجازى كل نفس بما كسبت ، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثاً لا قيمة له ، ولا حكمة منه ، ولم يكن بين الإنسان وبين البهائم فرق في هذه الحياة ‏.‏ قال الله - تعالى - ‏:‏‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون‏.‏ فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم‏}‏ وقال الله - تعالى -‏:‏‏{‏إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى‏}‏ ‏.‏وقال-تعالى-‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقًّا ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏.‏ ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‏.‏ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏}‏ وقال - تعالى -‏:‏ ‏{‏زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير‏}‏ ‏.‏

فإذا بينت هذه البراهين لمنكري البعث و أصروا على إنكارهم،فهم مكابرون معاندون، ‏{‏وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‏}‏ ‏.‏

القبر

هل عذاب القبر على البدن أو على الروح‏؟‏

‏(‏ 151‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ ‏:‏ هل عذاب القبر على البدن أو على الروح‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ الأصل أنه على الروح لأن الحكم بعد الموت للروح ، والبدن جثة هامدة ، ولهذا لا يحتاج البدن إلى إمداد لبقائه ، فلا يأكل ولا يشرب ، بل تأكله الهوام ، فالأصل أنه على الروح لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية ‏:‏ إن الروح قد تتصل بالبدن فيعذب أو ينعم معها، وأن لأهل السنة قولاً آخر بأن العذاب أو النعيم يكون للبدن دون الروح واعتمدوا في ذلك على أن هذا قد رئي حسّاً في القبر فقد فتحت بعض القبور ورئي أثر العذاب على الجسم ، وفتحت بعض القبور ورئي أثر النعيم على الجسم‏.‏ وقد حدثني بعض الناس أنهم في هذا البلد هنا في عنيزة كانوا يحفرون لسور البلد الخارجي، فمروا على قبر فانفتح اللحد فوجد فيه ميت أكلت كفنه الأرض وبقي جسمه يابساً لكن لم تأكل منه شيئاً حتى إنهم قالوا ‏:‏ إنهم رأوا لحيته وفيها الحنا وفاح عليهم رائحة كأطيب ما يكون من المسك،فتوقفوا وذهبوا إلى الشيخ وسألوه فقال ‏:‏ دعوه على ما هو عليه واجنبوا عنه ، احفروا من يمين أو من يسار‏.‏

فبناء على ذلك قال العلماء ‏:‏ إن الروح قد تتصل في البدن فيكون العذاب على هذا وهذا ، وربما يستأنس لذلك بالحديث الذي قال فيه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن القبر ليطبق على الكافر حتى تختلف أضلاعه‏)‏ فهذا يدل على أن العذاب يكون على الجسم لأن الأضلاع في الجسم والله أعلم‏.‏

ما المراد بالقبر هل هو مدفن الميت أو البرزخ‏؟‏

‏(‏ 152‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ ‏:‏ ما المراد بالقبر هل هو مدفن الميت أو البرزخ‏؟‏

فأجاب‏:‏ أصل القبر مدفن الميت قال الله -تعالى -‏:‏ ‏{‏ثم أماته فأقبره‏}‏ قال ابن عباس ‏:‏ أي أكرمه بدفنه ‏.‏ وقد يراد به البرزخ الذي بين موت الإنسان وقيام الساعة وإن لم يدفن كما قال - تعالى -‏:‏ ‏{‏ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ‏}‏ يعني من وراء الذين ماتوا لأن أول الآية يدل على هذا ‏{‏حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ‏.‏ لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون‏}‏ ‏.‏

ولكن هل الداعي إذا دعا ‏"‏أعوذ بالله من عذاب القبر‏"‏ يريد عذاب مدفن الموتى ، أو من عذاب البرزخ الذي بين موته وبين قيام الساعة‏؟‏

الجواب‏:‏ يريد الثاني لأن الإنسان في الحقيقة لا يدري هل يموت ويدفن أو يموت وتأكله السباع ، أو يحترق ويكون رماداً ما يدري ‏{‏وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏ فاستحضر أنك إذا قلت ‏:‏ من عذاب القبر أي من العذاب الذي يكون للإنسان بعد موته إلى قيام الساعة‏.‏

هل عذاب القبر ثابت‏؟‏

‏(‏ 153‏)‏ وسئل فضيلته ‏:‏ هل عذاب القبر ثابت‏؟‏

فأجاب بقوله ‏:‏ عذاب القبر ثابت بصريح السنة وظاهر القرآن وإجماع المسلمين هذه ثلاثة أدلة‏:‏

أما صريح السنة فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏تعوذوا بالله من عذاب القبر، تعوذوا بالله من عذاب القبر،تعوذوا بالله من عذاب القبر‏)‏ ‏.‏

وأما إجماع المسلمين فلأن جميع المسلمين يقول ‏:‏ون في صلاتهم ‏:‏ ‏(‏أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر‏)‏ حتى العامة الذين ليسوا من أهل الإجماع ولا من العلماء‏.‏ وأما ظاهر القرآن فمثل قوله-تعالى-في آل فرعون ‏:‏ ‏{‏النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏ ولا شك أن عرضهم على النار ليس من أجل أن يتفرجوا عليها، بل من أجل أن يصيبهم من عذابها ، وقال - تعالى - ‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم‏}‏ ‏.‏ الله أكبر إنهم لشحيحون بأنفسهم ما يريدون أن تخرج ‏{‏اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون‏}‏‏.‏ فقال ‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ و ‏"‏ال‏"‏ هنا للعهد الحضوري اليوم يعني اليوم الحاضر الذي هو يوم وفاتهم ‏{‏تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون‏}‏‏.‏

إذاً فعذاب القبر ثابت بصريح السنة ، وظاهر القرآن ، وإجماع المسلمين ، وهذا الظاهر من القرآن يكاد يكون كالصريح لأن الآيتين اللتين ذكرناهما كالصريح في ذلك‏.‏

هل عذاب القبر يشمل المؤمن العاصي أو هو خاص بالكفار‏؟‏

‏(‏ 154‏)‏ وسئل فضيلته ‏:‏ هل عذاب القبر يشمل المؤمن العاصي أو هو خاص بالكفار‏؟‏

فأجاب فضيلته‏:‏ عذاب القبر المستمر يكون للمنافق والكافر ‏.‏ وأما المؤمن العاصي فإنه قد يعذب في قبره لأنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي، صلى الله عليه وسلم ، مر بقبرين فقال‏:‏ ‏(‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة‏)‏ ‏.‏ وهذا معروف أنهما كانا مسلمين‏.‏

إذا لم يدفن الميت فأكلته السباع أو ذرته الرياح فهل يعذب عذاب القبر‏؟‏

‏(‏ 155‏)‏ وسئل الشيخ‏:‏ إذا لم يدفن الميت فأكلته السباع أو ذرته الرياح فهل يعذب عذاب القبر‏؟‏

فأجاب قائلاً‏:‏ نعم ويكون العذاب على الروح ، لأن الجسد قد زال وتلف وفني ، وإن كان هذا أمراً غيبياً لا أستطيع أن أجزم بأن البدن لا يناله من هذا العذاب ولو كان قد فني واحترق لأن الأمر الأخروي لا يستطيع الإنسان أن يقيسه على المشاهد في الدنيا‏.‏

الرد على من ينكر عذاب القبر

‏(‏ 156‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ كيف نجيب من ينكر عذاب القبر ويحتج بأنه لو كشف القبر لوجد لم يتغير ولم يضق ولم يتسع‏؟‏

فأجاب - حفظه الله -بقوله ‏:‏ يجاب من أنكر عذاب القبر بحجة أنه لو كشف القبر لوجد أنه لم يتغير بعدة أجوبة منها‏:‏

أولاً‏:‏ أن عذاب القبر ثابت بالشرع قال الله تعالى في آل فرعون ‏:‏ ‏{‏النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏ وقوله ، صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ثم أقبل بوجهه فقال‏:‏ تعوذوا بالله من عذاب النار ، قالوا‏:‏ نعوذ بالله من عذاب النار، فقال ‏:‏ تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا ‏:‏ نعوذ بالله من عذاب القبر‏)‏ ‏.‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن ‏:‏ ‏(‏يفسح له في قبره مد بصره‏)‏ إلى غير ذلك من النصوص فلا يجوز معارضة هذه النصوص بوهم من القول بل الواجب التصديق والإذعان‏.‏

ثانياً‏:‏ أن عذاب القبر على الروح في الأصل، وليس أمراً محسوساً على البدن فلو كان أمراً محسوساً على البدن لم يكن من الإيمان بالغيب ولم يكن للإيمان به فائدة لكنه من أمور الغيب، وأحوال البرزخ لا تقاس بأحوال الدنيا‏.‏

ثالثاً ‏:‏ أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه ، إنما يدركه الميت دون غيره والإنسان قد يرى في المنام وهو نائم على فراشه أنه قائم وذاهب وراجع، وضارب ومضروب ، ويرى أنه في مكان ضيق موحش ، أو في مكان واسع بهيج ، والذي حوله لا يرى ذلك ولا يشعر به‏.‏

والواجب على الإنسان في مثل هذه الأمور أن يقول ‏:‏ سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا‏.‏

هل عذاب القبر دائم أو منقطع‏؟‏

‏(‏ 157‏)‏ وسئل فضيلته‏:‏ هل عذاب القبر دائم أو منقطع‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ أما إن كان الإنسان كافراً والعياذ بالله فإنه لا طريق إلى وصول النعيم إليه أبداً ويكون عذابه مستمراً‏.‏

وأما إن كان عاصياً وهو مؤمن ، فإنه إذا عذب في قبره يعذب بقدر ذنوبه وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة وحينئذٍ يكون منقطعاً‏.‏

هل يخفف عذاب القبر عن المؤمن العاصي‏؟‏

‏(‏ 158‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل يخفف عذاب القبر عن المؤمن العاصي‏؟‏

فأجاب قائلاً ‏:‏ نعم قد يخفف لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، مر بقبرين فقال‏:‏ ‏(‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير ؛ أما أحدهما فكان لا يستبرئ‏)‏ أو قال ‏:‏ ‏(‏لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ‏)‏ ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة وقال‏:‏ ‏(‏لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا‏)‏ وهذا دليل على أنه قد يخفف العذاب، ولكن ما مناسبة هاتين الجريدتين لتخفيف العذاب عن هذين المعذبين‏؟‏

1- 1- قيل‏:‏ لأنهما أي الجريدتين تسبحان ما لم تيبسا، والتسبيح يخفف من العذاب على الميت ، وقد فرعوا على هذه العلة المستنبطة - التي قد تكون مستبعدة -أنه يسن للإنسان أن يذهب إلى القبور ويسبح عندها من أجل أن يخفف عنها‏.‏

2- 2- وقال بعض العلماء ‏:‏ هذا التعليل ضعيف لأن الجريدتين تسبحان سواء كانتا رطبتين أم يابستين لقوله تعالى- ‏:‏ ‏{‏تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ ‏.‏وقد سمع تسبيح الحصى بين يدي الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، مع أن الحصى يابس ، إذاً ما العلة‏؟‏

العلة ‏:‏ أن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ترجى من الله عز وجل أن يخفف عنهما من العذاب ما دامت هاتان الجريدتان رطبتين ، يعني أن المدة ليست طويلة وذلك من أجل التحذير عن فعلهما، لأن فعلهما كبير كما جاء في الرواية ‏(‏بلى إنه كبير‏)‏ أحدهما لا يستبرئ من البول، وإذا لم يستبرئ من البول صلى بغير طهارة ، والآخر يمشي بالنميمة يفسد بين عباد الله والعياذ بالله ويلقي بينهم العداوة ، والبغضاء ، فالأمر كبير ، وهذا هو الأقرب أنها شفاعة مؤقتة تحذيراً للأمة لا بخلاً من الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، بالشفاعة الدائمة‏.‏

ونقول استطراداً ‏:‏ إن بعض العلماء -عفا الله عنهم - قالوا ‏:‏ يسن أن يضع الإنسان جريدة رطبة ، أو شجرة ، أو نحوها على القبر ليخفف عنه ، لكن هذا الاستنباط بعيد جداً ولا يجوز أن نصنع ذلك لأمور‏:‏

أولاً‏:‏ أننا لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي، صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثانياً‏:‏ أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميت ، لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب وما يدرينا فلعله ينعم، لعل هذا الميت ممن مَنَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته لوجود سبب من أسباب المغفرة الكثيرة فمات وقد عفا رب العباد عنه ، وحينئذ لا يستحق عذاباً‏.‏

ثالثاً‏:‏ أن هذا الاستنباط مخالف لما كان عليه السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بشريعة الله فما فعل هذا أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - فما بالنا نحن نفعله‏.‏

رابعاً‏:‏ أن الله تعالى قد فتح لنا ماهو خير منه فكان النبي ، عليه الصلاة والسلام ، إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال‏:‏ ‏(‏استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل‏)‏ ‏.‏

هل عذاب القبر من أمور الغيب أو من أمور الشهادة‏؟‏

‏(‏ 159‏)‏ وسئل فضيلته ‏:‏ هل عذاب القبر من أمور الغيب أو من أمور الشهادة‏؟‏

فأجاب قائلاً‏:‏ عذاب القبر من أمور الغيب ، وكم من إنسان في هذه المقابر يعذب ونحن لا نشعر به ، وكم جار له منعم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما تحت القبور لا يعلمه إلا علام الغيوب ، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب ، ولولا الوحي الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، ما علمنا عنه شيئاً ، ولهذا لما دخلت امرأة يهودية إلى عائشة وأخبرتها أن الميت يعذب في قبره فزعت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبرته وأقر ذلك عليه الصلاة والسلام ، ولكن قد يطلع الله تعالى عليه من شاء من عباده ، مثل ما أطلع نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، على الرجلين اللذين يعذبان ، أحدهما يمشي بالنميمة ، والآخر لا يستنزه من البول‏.‏

والحكمة من جعله من أمور الغيب هي‏:‏

أولاً‏:‏ أن الله - سبحانه وتعالى - أرحم الراحمين فلو كنا نطلع على عذاب القبور لتنكد عيشنا، لأن الإنسان إذا أطلع على أن أباه ، أو أخاه ، أو ابنه ، أو زوجه ، أو قريبه يعذب في القبر ولا يستطيع فكاكه، فإنه يقلق ولا يستريح وهذه من نعمة الله -سبحانه- ‏.‏

ثانياً ‏:‏ أنه فضيحة للميت فلو كان هذا الميت قد ستر الله عليه ولم نعلم عن ذنوبه بينه وبين ربه -عز وجل- ثم مات وأطلعنا الله على عذابه، صار في ذلك فضيحة عظيمة له ففي ستره رحمة من الله بالميت‏.‏

ثالثاً ‏:‏ أنه قد يصعب على الإنسان دفن الميت كما جاء عن النبي،عليه الصلاة والسلام ‏:‏ ‏(‏لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر‏)‏‏.‏ ففيه أن الدفن ربما يصعب ويشق ولا ينقاد الناس لذلك ، وإن كان من يستحق عذاب القبر عذب ولو على سطح الأرض ، لكن قد يتوهم الناس أن العذاب لا يكون إلا في حال الدفن فلا يدفن بعضهم بعضاً‏.‏

رابعاً‏:‏ أنه لو كان ظاهراً لم يكن للإيمان به مزية لأنه يكون مشاهداً لا يمكن إنكاره ، ثم إنه قد يحمل الناس على أن يؤمنوا كلهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده‏}‏ فإذا رأى الناس هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون آمنوا وما كفر أحد لأنه أيقن بالعذاب ، ورآه رأي العين فكأنه نزل به ، وحكم الله سبحانه وتعالى عظيمة ، والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزم بخبر الله أكثر مما يجزم بما شاهده بعينه ؛ لأن خبر الله عز وجل لا يتطرق إليه احتمال الوهم ولا الكذب ، وما تراه بعينيك يمكن أن تتوهم فيه ، فكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال، وإذا هي نجمة ، وكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه وهذا وهم،وكم من إنسان يرى شبحاً ويقول‏:‏هذا إنسان مقبل، وإذا هو جذع نخلة ، وكم من إنسان يرى الساكن متحركاً والمتحرك ساكناً ، لكن خبر الله لا يتطرق إليه الاحتمال أبداً‏.‏

نسأل الله لنا ولكم الثبات ، فخبر الله بهذه الأمور أقوى من المشاهدة ، مع ما في الستر من المصالح العظيمة للخلق‏.‏

هل سؤال الميت في قبره حقيقي وأنه يجلس في قبره ويناقش‏؟‏

‏(‏ 160‏)‏ وسئل فضيلته ‏:‏ هل سؤال الميت في قبره حقيقي وأنه يجلس في قبره ويناقش‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله ‏:‏ سؤال الميت في قبره حقيقي بلا شك والإنسان في قبره يجلس ويناقش ويسأل ‏.‏

فإن قال قائل ‏:‏ إن القبر ضيق فكيف يجلس ‏؟‏‏!‏

فالجواب‏:‏

أولاً‏:‏ أن الواجب على المؤمن في الأمور الغيبية أن يقبل ويصدق، ولا يسأل كيف‏؟‏ ولم‏؟‏ لأنه لا يسأل عن كيف ولم إلا من شك ، وأما من آمن وانشرح صدره لأخبار الله ورسوله، فيسلم ويقول ‏:‏ الله أعلم في بكيفية ذلك ‏.‏

ثانياً‏:‏ أن تعلق الروح بالبدن في الموت ليس كتعلقها به في حال الحياة، فللروح مع البدن شؤون عظيمة لا يدركها الإنسان ، وتعلقها بالبدن بعد الموت لا يمكن أن يقاس بتعلقها به في حال الحياة ، وها هو الإنسان في منامه يرى أنه ذهب ، وجاء ، وسافر ، وكلم أناساً ، والتقى بأناس أحياء وأموات ، ويرى أن له بستاناً جميلاً ، أو داراً موحشة مظلمة ، ويرى أنه راكب على سيارة مريحة ، ويرى مرة أنه راكب على سيارة مقلقة كل هذا يمكن مع أن الإنسان على فراشه ما تغير حتى الغطاء الذي عليه لم يتغير ومع ذلك فإننا نحس بهذا إحساساً ظاهراً ، فتعلق الروح بالبدن بعد الموت يخالف تعلقها به في اليقظة أو في المنام ولها شأن آخر لا ندركه نحن، فالإنسان يمكن أن يجلس في قبره ويسأل ولو كان القبر محدوداً ضيقاً‏.‏

هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنه البلاغ ، وعلينا التصديق والإذعان قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً‏}‏ ‏.‏

كيف تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق مقدار ميل ولا تحرقهم وهي لو دنت عما هي عليه الآن بمقدار شبر واحد لاحترقت الأرض‏؟‏

‏(‏ 161‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ كيف تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق مقدار ميل ولا تحرقهم وهي لو دنت عما هي عليه الآن بمقدار شبر واحد لاحترقت الأرض‏؟‏

فأجاب بقوله ‏:‏ إن وظيفة المؤمن - وهذه قاعدة يجب أن تبنى عليها عقيدتنا - فيما ورد من أخبار الغيب القبول والتسليم وأن لا يسأل عن كيف‏؟‏ ولم‏؟‏ لأن هذا أمر فوق ما تتصوره أنت، فالواجب عليك أن تقبل وتسلم وتقول ‏:‏ آمنا وصدقنا ، آمنا بأن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل ، وما زاد على ذلك من الإيرادات فهو من البدع ، ولهذا لما سئل الإمام مالك- رحمه الله - عن استواء الله كيف استوى‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏السؤال عنه بدعة‏)‏ هكذا أيضاً كل أمور الغيب السؤال عنها بدعة وموقف الإنسان منها القبول والتسليم‏.‏

جواب الشق الثاني بالنسبة لدنو الشمس من الخلائق يوم القيامة فإننا نقول‏:‏ إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة التي عليها في الدنيا من النقص وعدم التحمل بل هي تبعث بعثاً كاملاً تاماً ، ولهذا يقف الناس يوم القيامة يوماً مقداره خمسون ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون ، وهذا أمر لا يحتمل في الدنيا ، فتدنو الشمس منهم وأجسامهم قد أعطيت من القوة ما يتحمل دنوها ، ومن ذلك ما ذكرناه من الوقوف خمسين ألف سنة لا يحتاجون إلى طعام ولا شراب ، فالأجسام يوم القيامة لها شأن آخر غير شأنها في هذه الدنيا‏.‏

هل الأجسام تبعث يوم القيامة على الصفة التي هي عليها في الدنيا أم لا ‏؟‏

‏(‏162‏)‏ سئل فضيلة الشيخ ‏:‏ قلتم في الفتوى السابقة رقم ‏"‏161‏"‏ ‏:‏ إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة التي هي عليها في الدنيا، والله - عز وجل - يقول‏:‏ ‏{‏كما بدأكم تعودون‏}‏ فنأمل من فضيلتكم توضيح ذلك‏؟‏

فأجاب فضيلته ‏:‏ هذا لا يشكل على ما قلنا ؛ لأن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏كما بدأكم تعودون‏}‏ من حيث الخلق فهو كقوله ‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ فالمعنى أنه كما بدأ خلقكم وقدر عليه فإنكم تعودون كذلك بقدرة الله -عز وجل - ‏.‏

هل يناقش المؤمن الحساب يوم القيامة أم لا‏؟‏

‏(‏ 163‏)‏ سئل فضيلة الشيخ ‏:‏ كيف نجمع بين قول النبي ، صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من نوقش الحساب عذب‏)‏ ‏.‏ رواه البخاري من حديث عائشة ، ومناقشة المؤمن في قوله، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول ‏:‏ أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا‏؟‏ فيقول ‏:‏ نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال‏:‏ سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته‏)‏ الحديث رواه البخاري‏؟‏

فأجاب رعاه الله وحفظه بقوله‏:‏ ليس في هذا إشكال لأن المناقشة معناها أن يحاسب فيطالب بهذه النعم التي أعطاه الله إياها ، لأن الحساب الذي فيه المناقشة معناه أنك كما تأخذ تعطي ، ولكن حساب الله لعبده المؤمن يوم القيامة ليس على هذا الوجه ، بل إنه مجرد فضل من الله - تعالى - إذا قرره بذنوبه وأقر واعترف قال‏:‏ ‏(‏سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏ وكلمة نوقش تدل على هذا لأن المناقشة الأخذ والرد في الشيء والبحث على دقيقه وجليله ، وهذا لا يكون بالنسبة لله - عز وجل - مع عبده المؤمن بل إن الله تعالى يجعل الحساب للمؤمنين مبنياً على الفضل والإحسان لا على المناقشة والأخذ بالعدل‏.‏